ومما كفروا به وأجمع المسلمون على تكفيرهم بسببه: القول الثالث: إنكارهم أن الله تعالى يعلم الجزئيات. قالوا: إنه تعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
أرسطو وأفلاطون أصحاب العقول التي عبدتها الإنسانية، وقدستها تقديساً عظيماً.. هذه العقول الكبيرة تقول: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، ولكن يعلم الكليات! وهذا القول ناشئ عن قولهم بأن الله لم يخلق هذا الكون، كما نعتقد نحن بأنه سبحانه وتعالى إله حكيم عليم قادر خلق هذا الكون، وكما هو دين جميع أتباع الأنبياء من اليهود والنصارى وغيرهم، فهم قد فارقوا جميع الملل؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة، وفي الجواب الصحيح إنَّ النصارى عندما تحولوا عن دين اليونان الفلسفي إلى النصرانية وإن كانت محرفة؛ فذلك أهون وأخف كفراً.
بمعنى آخر: إذا تحول إنسان من أهل الكتاب إلى ملة أخرى فقد قال بعض العلماء: إنه يقتل؛ لحديث: { من بدل دينه فاقتلوه}، فإذا أقررناه على أن يكون نصرانياً فيجب أن يبقى نصرانياً، إلا أن يسلم، لكن أن يدخل في اليهودية فلا نقره، أما إذا تحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية فإنه يقر -وإن كان الكاثوليك يكفرون البروتستانت- لأن هذا أخف، وعليه أن يدفع الجزية ويبقى في ظل الدولة الإسلامية، لكن إذا تحول اليهودي أو النصراني إلى دين الفلاسفة، فإنه يقتل؛ لأننا لا نقر التدين بدين الفلاسفة، وإذا تحول فيلسوف إلى النصرانية فإننا نقره ونقبل منه الجزية، ويصبح من أهل الكتاب.
إذاً: هناك فرق في التعامل الدنيوي، وإن كانوا كلهم كفاراً.
إذاً: الفلاسفة أشد الناس كفراً، ومن كفرهم قولهم: إن الله لا يعلم الجزئيات؛ لأنهم لا يقولون: إن الله خلق هذا الكون خلقاً -كما يقول بذلك جميع العقلاء من جميع الأديان- بل يقولون: صدر عنه صدور العلة من المعلول، أو فاض عنه... على اختلاف بينهم في ذلك.
برر به معلمهم الأكبر أرسطو -لا بارك الله في علمه ولا فيمن اتبعه- قوله بأن الله لم يخلق الكون أن قال: إن الله كامل، والكامل لا يفكر بالناقص ولا يشتغل به، والكون ناقص، فلو علمه ودبر أحواله وشئونه لكان اشتغالاً بالناقص، فيجب أن ننزه الله عن ذلك. فأنكر أن الله عالم مدبر محيي مميت، يفعل في ملكه ما يشاء؛ بغرض أنه يريد أن ينزه الله!
وقد استخدم هذه الشبهة كثير من الناس، يقول أحدهم: لا نؤمن بصفات الله، لأننا نريد أن ننزه الله، فليس له يد ولا عين ولا وجه... إلخ، فلا نقول: إنه يريد أن ينزه الله، ونعذره؛ لأن الكلام في هذه القضايا وأمثالها إن كان كفراً يقال عنه: كفر، وإن كان بدعة يقال عنه: بدعة، فإن كان له تأويل سائغ من النصوص الشرعية، وإلا فهو قول بالكفر المحض، أما أن نقول: إنه حسن النية ونعذره، فهذا غير صحيح. وليتهم أعذروه فقط، فإن ابن سينا لم يقل: إن أرسطو معذور؛ لأن قصده التنزيه، بل قال: إن هذا هو الدين الحق الذي يجب أن يتبع، ويقول ابن رشد : إن الشريعة رضيعة الفلسفة، فهما أختان رضيعتان، وله كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، فالشريعة والفلسفة عنده سواء، فيستوي عنده كلام أرسطو الذي اخترعه من عند نفسه بهذا التهافت، وكلام محمد صلى الله عليه وسلم الذي نزل به جبريل الأمين من عند رب العالمين!
وبهذا يُعلم ضلال هؤلاء الناس ومن اتبعهم، وإن قولهم هذا يدخل في باب التكذيب بالقدر؛ لأنه تكذيب بالعلم، ومن كذب بالعلم فقد كذب بأول وأهم مراتب القدر، ومن هنا كانوا كفاراً، فهم من جهة القدر قدرية غلاة، ومن جهة الصفات منكرون للصفات، ومن انتسب أو ادعى الإسلام منهم فهو كافر مرتد لا دين له.